الجمعة، 14 أكتوبر 2011

كنود هولمبو الصحفي الدنماركي المسلم صاحب كتاب رحلة في الصحراء الليبية




ولد كنود هولمبو في الدنمرك يوم 22 أبريل 1902 ، و هو الابن الأكبر لرجل أعمال دانمركي معروف . و قد كانت لكنود منذ سنوات شبابه الأولى صفات تتميز بالاستقلالية و حب المغامرة و إحساس قوى بالعدالة جعله يقف دائما في صف المظلومين و المضطهدين ، كما كانت لديه موهبة الكتابة . و قد جعله بحثه الروحاني الدائب يعتنق الكاثوليكية في العشرين من عمره و يبقى معتكفا لمدة سنة في دير كليرفو للرهبان في فرنسا ، و لكن روحه القلقة لم تجد السلام الذي كان يبحث عنه و لذا غادر الدير و اختار أن يكون صحفيا يتحدث عن اكتشافاته و مشاهداته و كان أول ما نشر له وصفا لرحلة قام بها مع عائلة لابية ، و هم قوم رحل في شمال اسكندينافيا ، و ذلك خلال نزوحها إلى أقصى مناطق النرويج النائية

و في سنة 1924 سافر إلى مراكش و شاهد ظروف الاضطهاد للمغاربة في الريف المراكشي تحت الحكم الاسباني و قوى إحساسه المتأجج بالسخط و أعتبر أن العدوان القائم بمثابة خيانة للمدنية الأوربية . و أخيرا قاده امتعاضه و شعوره بفشل المسيحية إلى الدين الاسلامى حيث رأى فيه الراحة و السلام الروحيان الذي يبحث عنهما . و في سنة 1925 نشر كتابه الصغير "بين الشيطان و البحر العميق" . و سافر بعد ذلك إلى بلدان الشرق الأوسط متنقلا عبر سوريا ، فلسطين ، الأردن ، العراق ، و إيران . كما سافر أيضا إلى دول البلقان مع زوجته و شاهد هناك الاضطهاد الفاشستي للألبان المسلمين و غيرهم
في سنة 1930 كان مقيما في المغرب حيث قرر القيام برحلة طويلة بسيارته الشيفرولية موديل 1929 عبر شمال إفريقيا المحتلة من فرنسا ثم طرابلس و برقة المحتلتان من قبل ايطاليا و حتى مصر . و هكذا بدأ الرحلة عبر المغرب ، ثم الجزائر حيث صادف مغامرات عدة و منها لقاءه مع الشاب النيويوركى الامريكى روسكو تاربوكس الذي أصبح رفيق رحلته للأيام القادمة ، ثم عبر تونس ، و أخيرا وصل إلى منطقة طرابلس الغرب ، حيث أن اسم ليبيا لم يستعمل بعد
" شاهدنا الأعلام المثلثة الألوان على جميع الأبنية الرسمية ، و الشباب الفاشستي بقمصانهم السوداء يسيرون في عرض الشارع منشدين النشيد الفاشستي . و في كل مكان علق الشعار الفاشستي مع تاريخ السنة التي ابتدأت فيها ايطاليا الجديدة : السنة الثامنة من عهد موسولينى . أما الجدران فقد رسم عليها رأس الديكتاتور باللون الاسود . و بدت مجموعة الرؤوس كأنها مجموعة من رؤوس الموتى . و تحت كل رأس وضع شعار : من ليس معنا فهو ضدنا "
بدأنا بعد قليل نسمع أول الحان النشيد الفاشستي . و كان الايطاليون يصرخون بينما بقى العرب على صمتهم . و مر حملة الرايات بسرعة و هم يرفعون أربعة أعلام ممزقة . إنها الرايات التي أحضرت من مرزق و فزان في أقصى الجنوب من المستعمرة حيث استطاعت القوت الايطالية بقنابلها و مدافعها الرشاشة أن تنتزعها من أيدي قلة صغيرة من البدو
و ارتفعت أيدي الايطاليين بالتحية حين مرت الرايات و ارتفع معها الهتاف: عاش موسولينى عاشت ايطاليا. و أخذ رجال الشرطة يرمقون الناس محذرين فارتفعت ببطء أيدي العرب و كان اليهود قد سبقوهم إلى التحية بحماس غير أن العرب لم يشاركوا في الهتافات إطلاقا ."
تحدث كنود مع جندي ايطالي و سمع منه رأيه في المقاتل عمر المختار:
" إن البدو يحاربون كالجن ، يقودهم رجل غريب يدعى الشيخ عمر المختار . و هو عجوز ناهز السبعين لا يترجل عن جواده أبدا ، يتنقل به من مكان لأخر ، و حين نظنه في مكان معين و نتهيأ للقبض عليه ، إذا به يتبخر فجأة "

كما تعرف كنود على الطفل اليتيم محمد ذي الاثنا عشر ربيعا الذي قتل والده على يد الايطاليين و كلفه بحراسة سيارته خلال ساعات النهار . و بعد محاولات عدة استطاع الحصول على أذن مرور للسفر إلى بنغازي و ذلك مقابل توقيعه مستندا هو و رفيقه الامريكى بمكتب نائب الحاكم بعدم تحميل السلطات الايطالية بأية مسؤولية مقابل أية أضرار قد تقع لهما بالطريق حيث أن منطقة برقة مازالت في حالة حرب مستمرة ضد الغازي الايطالي . كما أن اليتيم محمد طلب مرافقتهما إلى بنغازي للعيش مع عم له يقيم هناك ، مما جعل كنود يقابل زوج أم محمد و طلب موافقته على اصطحابه معه و التي حصل عليها بعد ممانعة أولية ، و حزن الأم التي لا تعرف إذا كانت ستراه مرة أخرى أم لا .
و هكذا غادر الرفاق الثلاثة ، دانماركى و أمريكي و يتيم عربي ، طرابلس نحو المجهول . و سارت الرحلة بلا مشاكل حتى مدينة سرت حيث قاربت منطقة برقة و الحرب التي ما زالت دائرة هناك . و هاهو كنود يصف تجمع للبدو على مشارف سرت و الذي كأنه يبدو بداية ترحيل البدو لمعسكرات الاعتقال الفاشستية :
" و تحت سرت كانت تقوم مضارب ضخمة للبدو و كانت النيران تتألق خارج الخيام . و ذهب تاربوكس لينام و لكن محمد و أنا ذهبنا لإلقاء نظرة على المعسكر . في الواقع لم أشهد مثل هذا الفقر . كانت النساء ترتدي أسمالا بالية يلففن بها أجسامهن ، و كان الرجال في حالة أشد سوءا . و هرع الأولاد الجياع نحونا يستجدون النقود .
و سألت احد أفراد البدو : " كم مضى عليكم من الوقت هنا ؟ "
و أجاب: " ثلاثة أشهر ، و لا نعرف متى يسمح لنا بالرحيل . أن حياتنا تتوقف على التنقل . وهنا لا يتوافر الكلأ لماشيتنا . و ينبغي علينا ألان أن نبيع بعضا منها لنتمكن من تأمين الغداء لنا و لشراء العلف لما يتبقى منها . و في الحقيقة لا أدرى ما يمكن أن يحل بنا "
- و هل يريدون منكم أن تتوطنوا في مكان واحد ؟
- الله و حده يعرف ماذا يريدون ... اعتقد أنهم يريدوننا أن نموت ."
و يستمر كنود في رحلته شرقا من سرت حيث لا يوجد طريق معبد و لا علامات حياة ، و في هذه الصحراء القاحلة و المجدبة ما بين النوفلية و العقيلة تتعطل السيارة بالرفاق الثلاثة و يتوهون في الصحراء " و هكذا غدا الوضع يائسا : لم يكن لدينا ماء ، كما لم نأكل شيئا طيلة الساعات الثماني و الأربعين الماضية بسبب ما عانيناه من اضطراب معدنا بعد تناولنا الماء الملوث . و كان يستحيل علينا ازدراد الطعام بدون ماء . و بعد بحث عاجل قررنا التخلي عن السيارة . و شربنا بقدر ما نستطيع من الماء الموجود في الرادياتور و أخذنا الباقي معنا . و هكذا بقى لدينا أمل ضعيف في الوصول إلى بئر مردومة أحياء . "قارب كنود و رفيقاه الموت بسبب العطش و الجوع و رياح القبلي و برودة ليالي الصحراء القارية ، و شاهدوا في مأساتهم مأساة الآخرين متمثلة في جثث المقاتلين العرب مبعثرة في الصحراء و الحيوانات النافقة ، حتى قيضت لهم النجاة عن طريق الايطاليين الذين بدأوا البحث عنهم ، عند عدم وصولهم للعقيلة كما كان متوقعا . كما قابلوا بعض المجاهدين في طريقهم إلى الكفرة التي مازالت حرة ، و لم يتعرضوا للأذى عندما عرفوا أن كنود كان مسلما ، كما عرفوا الشهيد والد محمد عندما حكي لهم قصته . و هكذا وصلوا في نهاية المطاف إلى بنغازي ، حيث فارقهم محمد للإقامة مع عمه ، كما أن قصتهم أصبحت معروفة عن طريق نشرها بالجريدة الايطالية المحلية . و أقام كنود و رفيقه الامريكى في فندق البيرغو ايطاليا .
و في بنغازي رأى كنود المشانق التي تنصب كل يوم لتنفيذ أحكام الإعدام بحق المجاهدين أو من يشك بأية صلة لهم ، و يتعرف على صاحب مكتبة يهودي و صديقه المسلم المثقف أحمد على الذي عرفه على الطرق الصوفية و على كتاب المصري عمر بن الفارض ، و أفكار الغزالي ، و انتهاء بالحركة السنوسية التي تقود الجهاد و مقاومة الغازي في برقة من ملاذها الأخير في واحة الكفرة . كما يتعرف على الضابط الايطالي فورنارى الذي كان أسيرا في الكفرة حيث لم تطأ من قبل قدم اوربى عدا الالمانى رولف و الأسير الفرنسي من تشاد و الانجليزية روزيتا فوربيس ، و يسمع منه حكايته . و ها هو يصف لنا احتفالا شاهده بمناسبة تسليم البنادق للشبيبة الفاشستية و حضره حاكم برقة الجنرال جراسيانى ، فيقول :
" و عزفت إحدى الجوقات النشيد الفاشي ، و انطلقت حناجر جميع الفتيان بالهتاف ، فقد ظهر الجنرال جراسيانى على شرفة مقر الحكومة ، و كان طويل القامة نحيلا و ذا سحنة مقدودة هي شكل نموذجي للجندي . و لم يكن يحسن الخطابة جيدا ، و كان صوته يشبه النباح الصادر عن المشتركين في الاستعراض .
و صرخ قائلا : أيها الفتيان لقد تسلمتم اليوم بنادقكم . إنها البنادق التي ستستخدمونها دفاعا عن ايطاليا التي نحبها جميعا ، و من أجل تعزيز جبروتها . عليكم ألا تنسوا لحظة واحدة بأنكم ايطاليون ، رومانيون ، وتذكروا أن أجدادكم وطئوا مرة أرض هذه البلاد . أنتم رومانيون تقاتلون البرابرة ، فكونوا رحيمين معهم ، و لكن كونوا دائما أسيادهم . تذكروا أنكم رومانيون . و رفع الجنرال جراسيانى يده مشيرا العلم الايطالي المثلث الألوان و قال:
- إن الراية الايطالية تخفق مجددا فوق هذه البلاد ، و ستظل تخفق إلى الأبد . عاشت ايطاليا "
و في نهاية المطاف يقابل كنود جراسيانى و يقنعه بإعطائه إذن المرور المطلوب لتكملة رحلته حتى مصر مقابل توقيع نفس التعهد بعدم تحميل السلطات الايطالية أية مسؤولية على أية ضرر قد يقع له . و بعد أنهى كنود الصيانة الكاملة لسيارته عن طريق مندوب الشيفرولية في بنغازي غادرها تاركا رفيقي رحلته سابقا فيها حيث أن محمد أستقر مع عمه و بدأ مباشرة عمل له ، أما صديقه الامريكى فقد قر عزمه على الرجوع إلى أوربا . و في طريقه للمرج شاهد تنفيذ شنق ثلاثة من المحكوم عليهم بالإعدام عن طريق المحاكم الطائرة . و في المرج يتعرف على الحاكم العسكري الايطالي بها الكومندان ديودييس ، و لعله الايطالي الوحيد الذي يعرض عنه صورة إنسانية غير ملوثة بالتطرف الفاشي للآخرين و لكنه كما يبدو كان حذرا حتى في إبداء آراءه الحقيقية و لكن نفهم من كلامه مع كنود بأنه يفضل لغة الحوار و التعايش ، و يعتقد بأنه من الممكن السلام عن طريق المصافحة باليد .
يغادر بطلنا المرج و يدخل في الجبال و الغابات التي كانت الملاذ لعمر المختار و مقاتليه ، حيث كانوا يحاربون حربا ضروسا لا رحمة و لا شفقة و لا أمل من النصر فيها – قرارهم الوحيد الاستمرار و الشهادة . و يتم أسره من قبل بعض هؤلاء المقاتلين الذين عاملوه كعدو في البداية و لكن بعد التأكد من شخصيته و كونه مسلما و وجود القران معه بالاضافه إلى تكلمه العربية تغيرت معاملتهم له ، بل و قضى معهم ليلة سمر حيث استمع إلى قصصهم ، و في صباح اليوم التالي تركوه يواصل طريق سالما .
عند وصول كنود إلى مدينة درنة و رغم الحرب الدائرة في برقة ترك لنا عنها وصفا جميلا و خلابا لهذه المدينة و كيف كانت تبدو منذ سبع و سبعين سنة مضت:
" أن درنة من ناحية المناخ جنة الله على الأرض . فهي تقع قرب البحر المتوسط و تتمتع بأفضل مناخ في إفريقيا كلها ... و تملك درنة أصفى و أنقى و أطيب المياه في إفريقيا الشمالية كلها . فهي تتدفق من الجبال و تجرى وسط البلدة نفسها وسط القنوات و المجارى ، و تذهب المياه الفائضة عن حاجات الري إلى البحر . و أراضى درنة مغطاة ببساط كثيف من الحشائش و الأعشاب و تتألق فيها الأزهار الجميلة . و هناك بساتين كبيرة للموز تعطى مواسم دائمة على مدار السنة ." و لكن الوجود الايطالي يبقى فارضا وجوده ، حيث أنه " يحيط بدرنة سور كبير من جميع جهاتها ، و قد تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى حصن حقيقي . " و في درنة شاهد كنود كيف تجرى المحاكم الطائرة محاكمتها لأربعة متهمين بمساعدة المجاهدين و عندما يطلب أحدهم تخفيف حكم الإعدام يزمجر القاضي فيه قائلا :" المحاكم العسكرية ليس لديها سوى عقوبتين ، الموت أو البراءة " .
و يصبح بطلنا نفسه متهما بالتعاطف مع الوطنيين حيث أنه يجالسهم و يتكلم لغتهم و يصلى معهم في مساجدهم ، كما أنه قبض عليه من قبل مقاتليهم و لم يؤذوه ، و لذا يستدعيه مفوض الشرطة و يحقق معه شخصيا ، و رغم أنه مازال حرا فأنه لم ينل الإذن بالمرور للحدود المصرية ، و قد يكون هذا بسبب أنه في نفس هذه الفترة التاريخية بدأ جراسيانى حملته لتفريغ منطقة البطنان من سكانها البدو و ترحيلهم إلى البريقة و العقيلة ، و لهذا السبب فإنها كانت منطقة من غير المرغوب السماح المرور فيها لشاهد دولي محايد .
و في 17 يونيه 1930 بدأت حملة اعتقالات في مدينة درنة شملت من ينتمون للحركة السنوسية و شيوخ الزوايا و المتعاطفين مع المجاهدين ، كما شملت كنود أيضا و أودع السجن معهم ، قيد الاعتقال بدون إبداء الأسباب . في السجن تحدث كنود مع رفاقه و سمع منهم قصصهم ، و سمعوا قصته . شهد كنود أعواد المشانق و الإعدامات و إجراءات المحاكم الطائرة و المعاملة غير الإنسانية و تدمير مصادر رزق البدو و ترحيلهم من مناطقهم الأصلية إلى معسكرات اعتقال لاحقة و الظلم و الجبروت الذي تعرض له الليبيون خلال العهد الفاشستي و سجل ذلك كله بأمانة و صدق و بلا مبالغة في كتابه و الذي ترجم من قبل محمد بشير الفرجانى بعنوان رحلة في الصحراء الليبية . أبعد كنود من درنة إلى بنغازي بالباخرة التي أقلت مساجين آخرين غيره ، و من بنغازي أبعد إلى مصر بالباخرة أيضا .
و لكن ليست هذه نهاية قصة كنود مع الجهاد الليبي ، و لانهاية قصة الايطاليين معه ، فقد تجول كنود مابين مصر و سوريا و الأردن متكلما عما يجرى في برقة من أحداث و باحثا عن دعم للمجاهدين حتى تابعته الاستخبارات الايطالية بعدها و نجحت في تأجير بعض المارقين البدو في خليج العقبة و اغتياله هناك و هو في طريقه إلى الحج سنة 1931 ، و إلى حد الآن لا يعرف القبر الذي دفن فيه هذا الشهيد

ليست هناك تعليقات: