السلام عليكم
هذه ترجمة للفصل السابع عشر الذي يحمل عنوان (مخيم البدو في بومليانة)، من كتاب طرابلس الجديدة وما شاهدته في الدواخل، لمؤلفته ايثيل براون (Ethel
Braun)،
الذي نُشر سنة 1914، ويحكي عن تفاصيل رحلتها إلى طرابلس الغرب سنة 1912م.
منطقة بومليانة تقع حاليا في قلب
العاصمة طرابلس وفيها جرت إحدى أكبر معارك الجهاد الليبي ضد الغزو الإيطالي في 26
اكتوبر 1911، وكان يوجد بها معسكر عثماني ضمن مجموعة معسكرات دفاعية متقاربة تشكل
طوقاً حول مدينة طرابلس، وصار لاحقاً معسكراً إيطالياً بعد إحكام السيطرة على
مداخل طرابلس.
هذه الترجمة جهد خالص لنا اعتماداً
على نسخة الكتاب الأصلية الإنجليزية، ومن الجدير بالذكر أن السيدة براون تروي
الأحداث بصيغة المضارع ولكننا قمنا بتحويلها إلى صيغة الماضي لأنها الأصح في اللغة
العربية، وهناك نقطة تُحتسب للسيدة براون عندما دافعت عن نظافة الناس وتفنيد كلام من
يتهم العرب بقلة النظافة، ويبقى أن أقول أن حق النقل مباح لكل من يود بشرط ذكر
المصدر عند النقل.
مع تحيات المترجم/ م. عبدالباسط
بلقاسم الغماري
وأترككم الآن مع الكتاب
الفصل 17
مخيم البدو في
بومليانة
على بعد حوالي عشرين دقيقة بالسيارة خارج طرابلس في بومليانة "آبار
بومليانة" يوجد مخيم كبير للبدو تحت إدارة الحكومة الإيطالية، ويوجد هنا ما
بين 1600 و 1800من البدو، بينهم حوالي 200 من الزنوج أغلبهم سودانيون.
الكثير من هؤلاء الناس فقدوا آباءهم في الحرب الجارية حالياً، وهنا
الحكومة قدمت المأوى و الطعام لهؤلاء الناس الغير قادرين على العمل، إلى جانب
الرعاية الصحية وتعليم الأطفال، والخطوات الأخرى اللازمة نحو التحضر، والصرف الصحي
والنظافة حتى هذه اللحظة غير معروفين لرحّل الصحراء التعساء هؤلاء بشكل جليّ.
تم استقبالنا في المدخل من قبل موظف رسميّ أخذ تصريحاتنا إلى الضابط
المسؤول النقيب الطبيب، ورحب بنا هذا الأخير بلطف دائم لم نرَ له مثيلاً في
طرابلس، وأخذنا معه بالأرجاء لنلقي نظرة على المخيم.
لقد تم تقسيمه إلى أربعة أقسام سُمّيت على مدن روما وميلانو وتورينو
وباليرمو، الشوارع بين الخيام الصغيرة سُمّيت على العائلة الملكية الإيطالية،
بينما الساحة التي تتفرع منها سميت باسم بياتزا دي بروغريسو ( ساحة التقدم ), الخيام يمتلكها الناس،
وبداخلها الحرارة ساخنة، وبشجاعة انحنيت بداخل إحداها لأنها منخفضة للغاية على
السماح لأحد بأن يقف .
هنا ثمة خمس نساء، إثنتان تعملان على النول اليدوي تنسجان قطن الباراكان
( تقصد الفراشية)، الثلاث الأخريات يشاهدن بكل بساطة ويروين تلك القصص التي لا
تنتهي التي يحبها العرب، وواحدة ساحرة حقيقية من ماكبيث (تشير إلى قصة ماكبيث
الشهيرة) ذات شعر طويل دقيق أشعث، وعينين سوداوين وحشيتين تبدأ عاصفة من استفسارات
ذات طبيعة شخصية للغاية، لكن الأخريات طلبن منها بلغة بدوية أن تصمت.
الكل كنّ ودودات كثيراً وأردن مني أن أبقى وأبادلهن الحديث، لكن
الحرارة كانت شديدة الوطأة عليّ لِذا انسحبت مسرعة، كل شيء بداخل الخيمة نظيف
للغاية بالطبع مثل كل مكان في المعسكر.
ثمة عدد قليل جداً من الرجال يمكن رؤيتهم خلال النهار، الجميع ذهبوا
إلى المدينة من أجل العمل، كحمّالين في أعمال البناء وغيرها، ويعودون بحلول
المساء.
النساء يجلبن مؤونة الماء من البلدة في الصباح، وبإمكان أي شخص أن
يراهن قادمات في مجموعات جميلة وصفائح القصدير فوق رؤوسهن، ويا حسرتاه، تلك صفائح
للنفط، وهذه ملاحظة غير جميلة ومؤسفة، بدلاً عن الجرار الفخارية التي تنسجم بكل
روعة مع ملابس النساء.
أتينا إلى مدرسة البنات حيث كانت المُعلمات ثلاثاً من راهبات
الفرنسيسكان، رائعات ولطيفات بعباءاتهن الفضفاضة، إحداهنّ كانت تعطي درساً على آلة
الخياطة لبعض هؤلاء الصغيرات وهنّ جالسات من حولها خارج الفصل، الفتيات اللاتي
يأتين إلى المدرسة عددهنّ خمساً وأربعون، سنّهنّ يتراوح بين بين الثالثة والثانية
عشر، وهنّ يتعلمن كل أنواع الحياكة إضافة إلى الدروس الإعتيادية، وقد أريننا بعض الحياكة
الرائعة بحقّ والمطروزات، وما شابه، وملابس قطنية بسيطة لأنفسهنّ، كذلك في غرفةٍ
صغيرةٍ مجاورةٍ للفصل عددٌ من السّلال الجميلة وأغطية صحون وأدوات للمائدة وأغطية
الرأس للحماية من الشمس و قبّعات كبيرة وحقائب, وما شابه، وكلها مصنوعة من سعف
النخيل المضفور مع شرائط من الملابس الملونة المصنوعة ببراعة، بالقرمزي والأخضر
والأزرق والأصفر تنتهي بمجموعات صغيرة من نفس النوع، وجرى إهدائي تذكاراً من نوع
من السلال الفاتنة تشبه بعض الشيء خلية نحل بغطاء محبوك ذي ألوان كثيرة ومقبض أسود،
كذلك مشط أصفر جذاب فيه بقع حمراء.
بداخل صحن محبوك لاحظنا بعض العملات المعدنية، وأخبرنا الطبيب أنه
يقوم بجمع قلائد وعملات عُثِر عليها بعد القتال الجاري حالياً بحوزة النساء
البدويات، التقطت مصادفة واحدة منها، ولدهشتي الشديدة وجدتها انجليزية، مكتوب على
الجانب: "في ذكرى زيارة أمير ويلز إلى الهند، نوفمبر ، 1875" ، في
الجانب المقابل لمحة عن الملك الراحل ادوارد مع كلمات تقول: "البرت ادوارد
أمير ويلز، وُلِد في 9 نوفمبر، 1841" ، من المحتمل أنها كانت بحوزة أحد
البحارة الإيطاليين الذين سقطوا في معركة شارع الشط أو الهاني، والآن تعود إلى
أيدي الانجليز لأن الطبيب أعطاني إياها بلطف، وفي الفصل أختٌ أخرى تعطي درساً عن
الشعر، هنا توجد كثير من الفتيات, طفلات صغيرات وأكبر سناً معاً، بعضهنّ من المنصف
جداً أن تعتبرهن كأوروبيات، من الساحل أو الجبال، والأكثر سمرة نموذجٌ حقيقي ٌّ للبدويات
من الدواخل، ثم السودانيات سوداوات البشرة ومتبسمات، والكل يقفن عندما ندخل ويقلن:
"بون جورنو" (صباح الخير بالايطالي)، يتلين الشعر، ويجبن عن أسئلة في
الجغرافيا والتاريخ، وهكذا.
الكثير منهن ذكيّات، في حين أنّ جميعهن يستمتعن بتعليمهن بشكل هائل، ومنتبهات
للأخوات الطيبات اللاتي يفعلن الأعمال الخيرة لهاته اليتيمات الصغيرات المسكينات،
إنه من الممتع سماعهن وهن يكررن أسماء أطفال العائلة الملكية الإيطالية، ويالها من
لمسة سعيدة.
في نهاية الفصل لاحظت آلة غريبة المظهر، وأخبرنني أنها لصناعة
الجوارب، فكرة عملية جداً.
خرجنا مرة أخرى تحت الشمس عبر الساحة لنرى المستوصف حيث كل المرضى
يتلقون عناية من الطبيب كل صباح من الساعة السادسة إلى التاسعة، الرجال أولاً، ثم
النساء، إنه نظيف بشكل رائع، ومجهز بمعدات حديثة وطاولات للعمليات، وما شابه.
بعدها قمنا بزيارة لحمام بنات المدرسة، إنه منسق بشكل ممتاز بجدران
خشبية وأرضية اسمنتية ومغاسل في كل مكان، بينما في إحدى الزوايا توجد سخانة لتسخين
المياه لغسيل الثياب، وما شابه، علاوة على أدوات معقمة حديثة إلى حدّ كبير.
في بداية أيام المخيم هذا كان له أهمية قصوى، حيث وُضعت كل الملابس في
أكياس، ووضعت بجوف وعاء كبير لتطهيرها وتركت فيه لعدة ساعات، ومع مرور الوقت صارت
النظافة عادة، والآن الناس، وبالأخص النساء، يأتون بملء إرادتهم عندما تكون هناك
حاجة بسيطة للنظافة جالبين معهم أكياسهم، وهذا يرد بقوة على أي شخص يقول عن خصال
هذا العرق بأنه غير نظيف كثيراً.
الطبيب كان يتحرك بنشاط تام في المكان كله، ويؤدي واجباته على أكمل
وجه، لا توجد أوساخ ولا روائح منفرة ولا آفات ولا فوضى، إنها مثل مدينة صغيرة
نموذجية تجري على نسق حديث بهذه الطرق، وحتى الآن تُركت حياة البدو الطبيعية كما
هي.
الناس في المخيم لديهم سوقهم الأسبوعي الخاص، حيث بوسعهم شراء كل أنواع
المؤن، وبعض النساء حسناوات إلى حد بعيد، ومجموعة منهنّ عند البئر فاتنة جداً بحيث
لم نستطع مقاومة أن نتوقف ونلتقط لهن صورة، هؤلاء جميعهن كنّ متزوجات يرتدين
الـفافا أو غطاء رأس قماشي أحمر ملتصق بالرأس (أعتقد تقصد الوشاح الذي يسميه
الليبيون محرمة أو تستمال) تحت الباراكان ( تقصد الفراشية)، وهنّ لا يحببن أن يتم
تصويرهنّ، ومن الشاقّ دائماً جعلهن يقبلن التصوير، لكن بعد قليل من الضحك وكثير من
المحادثة نستطيع إقناعهن بالأمر.
الأولاد مثل الرجال يذهبون جميعاً إلى المدينة حيث يعملون كحمالين في
السوق, وما شابه، وعند عودتهم في المساء فأول شيء يفعلونه هو الإستحمام في الحمام
المجهز لهم، ونحن نمر بين الخيام لفت انتباهنا طفلة صغيرة سعيدة جداً تتسلى بالقفز
مثل الضفدع، تدور وتدور حول شجرة، وبالنسبة لفاطمة، لاحظتها عينا الطبيب في نفس
الوقت فقال:
"لماذا
لست في المدرسة يا فاطمة؟" .
تملمُل وابتسامة كأي متهربة من واجبها في أي قرية في بلدي تعطينا
إجابة السؤال.
"الآن اذهبي مباشرة إلى المدرسة".
وبمشية حزينة وأحد كتفيها مرتفع عن الآخر تذهب بعيداً، ولكنها تبدأ
قفزة الضفدع على طول الشارع حالما تظن أننا لا ننظر إليها، لمسة أخرى من الطبيعة
الإنسانية التي تجعل كل العالم أقارب.
التعاليم الدينية يتم توجيهها من قِبل الإمام بالطبع كذلك الزواج
والجنائز والإحتفالات.
عندما كنا على وشك المغادرة، ركضت نحونا فتاة صغيرة لترينا بفخر عظيم
حقيبة محبوكة من صنعها بألوانها العديدة المعتادة، وطلبت حوالي 3.5 بنس بالعملة
الانجليزية ثمناً لها، وذهبت إلى السلة بجوار تذكاراتي الأخرى من أكثر يوم مبهج ومثير
للإهتمام قضيته.
هناك تعليقان (2):
بلرك الله فيك
وفيك بارك الله وشكرا لزيارتك
إرسال تعليق