فوائد من قصة أبي هريرة مع الشيطان
هذه القصة يؤخذ منها فوائد كثيرة ومتعددة، فمن هذه الفوائد:
أولاً: أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن.
ثانياً: أن الحكمة قد يعلمها الفاجر ولكنه لا ينتفع بها؛ لأنه لا يعمل بها، وربما تأخذ علماً من رجل فاجر، والعلم هذا نافع؛ ولكن الفاجر لا ينتفع به لفجوره.
ثالثاً: أن الشخص قد يعلم الشيء ولا يعمل به، وهذا كثير حاصل، وكثيرٌ من الناس عندهم معلومات كثيرة لكن لا يعملون بها، لو كانوا يعملون بالمعلومات التي عندهم لتغيرت أحوالهم؛ لكنها معلومات بدون عمل، ومعلومات بدون عمل لا تنفع، ولو كنا نعمل بعشر ما نعلم لتغيرت أحوالنا كثيراً.
رابعاً: أن الشيطان قد يَصْدُق أو يُصَدِّق ببعض ما يصدق به المؤمن، ومع ذلك لا يكون مؤمناً، هذا الشيطان يقول: إن هذه الآيات تحفظك من الشياطين، هو صدق بهذا لكن هذا التصديق لا يعني أنه مؤمن.
خامساً: أن الكذاب قد يصدق، فبعض الكذابين يمكن أن يَصدقوا في بعض الأحيان مع أنهم كذابون، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشيطان: (صدقك وهو كذوب).
سادساً: أن العادة والغالب على الشيطان الكذب، وأنه نادراً ما يصدق.
وكذوب صيغة مبالغة من قوله: (صدقك وهو كذوب).
سابعاً: أن الشيطان قد يتصور بصورةٍ يمكن للإنسي أن يراه من خلالها؛ لأن الله يقول في كتابه: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، الشيطان يراكم وأنتم لا ترونه إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ [الأعراف:27] هو ومن على شاكلته من الشياطين يرونكم وأنتم لا ترونهم، فإذا كان الله يقول: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] فكيف رآه أبو هريرة؟
وكيف رآه الصحابة الآخرون؟
فنقول: عندما تصور بصورة أخرى غير الصورة الأصلية، أي: أنه لو كان هو على شكله الأصلي الحقيقي فلا يمكن أن نراه إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] لكن إذا تشكل بصورة كلب أو حية أو على صورة هذا الكائن المهزول كأن ذراعيه ذراعي كلب، فحينها يمكن أن نراه؛ لأنه تشكل بصورة أخرى، فنراه بهذه الصورة التي تشكل عليها، لكن الصورة الأصلية التي خلقه الله عليها لا يمكن أن نراه وهو عليها إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].
ثامناً: أن الشخص الذي يقام على حفظ الأشياء يسمى وكيلاً، فمن يوكل بحفظ الصدقة فهو وكيل.
تاسعاً: أن الجن يأكلون من طعام الإنس، قال الله عز وجل: وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء:64] والطعام يدخل في الأموال، فإذا أردت أن تمنع الشيطان من مشاركتك في الطعام فقل: باسم الله، وإذا دخلت منزلك فقل: باسم الله فإنه لا يدخل معك، وإذا قدم الطعام فقلت: باسم الله فإن الشيطان يقول: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذاً تستطيع أن تحرم الشيطان من مشاركتك في الطعام عندما تسمي الله عليه.
وكذلك إذا كان إناء فيه طعام غطه، وقل: باسم الله، فإن من فائدة تغطيته وقول: باسم الله منع الشيطان من الأكل منه، وإن الشيطان يأكل ويشرب من الإناء المفتوح، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولو أن تعرض عليه عوداً وتسمي الله) فلو وضعت عوداً دون الغطاء، وقلت: باسم الله، فلا يستطيع الشيطان أن يأكل أو يشرب منه.
وكذلك يفيد في منع نزول الداء من السماء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها داء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء غيبي، فإذا غطيت الإناء فلا ينزل الداء، فإذاً فائدة تغطية الإناء، وقول: باسم الله ما يلي:
أولاً: منع الداء.
ثانياً: منع الشيطان من أن يشاركك في مطعومك ومشروبك.
ثالثاً: أن باسم الله تمنع الشيطان من النظر إليك.
فإذا قال إنسان: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] فإننا نريد أن نخلع ثيابنا، وأن ندخل للاغتسال، وأن يأتي الرجل أهله فما هو الحل؟ وهل نبقى نحن نهباً لأعين الجن يرون عوراتنا؟
فنقول: لا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الرجل إذا أراد أن يخلع ثيابه فسمى الله، فإن الشيطان لا يستطيع أن ينظر إلى عورته، وهذا حفظ للعورة، وإذا خلع الثياب قال: باسم الله، وإذا أتى أهله قال: باسم الله.
وكذلك باسم الله تمنع من المشاركة في الأولاد؛ فإنه ورد في تفسير قوله تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء:64]: أن الشيطان يشارك الإنسان في وطء زوجته، فيشاركه في الأولاد، فإذا قلت: باسم الله قبل الجماع منعت الشيطان مشاركتك في الأولاد.
فباسم الله تمنعه من دخول بيتك، ومن طعامك، وشرابك، ومن رؤية عورتك، ومشاركتك زوجتك، ومن هذا يتبين لنا أهمية هذه الكلمة.
عاشراً: أن الشياطين قد يتكلمون باللغة العربية، وقد تسمعه أيضاً باللغة التي عليها هذا الرجل، قد يتكلم باللغة الإنجليزية أو الفارسية.
حدثوا أن أبا علقمة النحوي -وكان رجلاً متقعراً في الكلام يأتي بالكلام الوحشي- كان ذات مرةٍ يمشي في الطريق، فأصابه شيء فسقط، فتجمع عليه أهل السوق، هذا يعصر إبهامه، وذاك يقرأ في أذنه، وذلك يؤذن في الأذن الأخرى، فقال: مالكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني.
فقالوا: شيطانه يرطن بالفارسية أو بالهندية.
فقوله: (تكأكأتم علي) أي: تجمعتم علي كتجمعكم على ذي جنة، أي: كتجمعكم على من دخل فيه الجني، (افرنقعوا عني) أي: انفضوا واذهبوا عني، فقالوا: هذا شيطانه يتكلم بالهندية أو بالفارسية.
إذاً يمكن للشيطان أن يتكلم باللغات الحية المعروفة، ولا شك أنهم يعلمون أن منهم من يتكلم العربية، ومنهم من يتكلم غيرها، وفيهم أهواء وبدع؛ عندهم قدرية ورافضة ومرجئة ومبتدعة، ومشركون، وضُلاَّل وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً [الجن:11] حتى البدع موجودة عند الجن.
حادي عشر: في هذا الحديث أن الشياطين يسرقون ويخدعون، ما هو وجه السرقة هنا؟
لما جعل يحثو من الطعام ويأخذ منه بكفيه، وفي الرواية الأخرى: أنه كان يأخذ فينقص الطعام، ويخدعون لما قال له: لا أعود ثم عاد وقال له: لا أعود ثم عاد، هذا خداع.
ثاني عشر: فضل آية الكرسي، ومن الروايات الأخرى يؤخذ فضل آخر سورة البقرة.
ثالث عشر: أن الجن يصيبون من الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه.
رابع عشر: أن يد السارق لا تقطع في المجاعة، ويمكن أن يقال: إن المسروق لم يبلغ نصابه.
خامس عشر: قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، فإذا جاء أحد ظهر لك منه الصدق، وأمسكت به وهو يسرق شيئاً من عندك، وعندما حققت معه شكا الحاجة والفقر والعيال ولا يظهر منه خلاف ذلك، فالذي يظهر منه -فعلاً- الفقر والشدة والمسكنة، فالأفضل لك أن تعذره بما فعل، ولا تأخذه بما اقترف، من باب قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، وأبو هريرة رضي الله عنه في المرة الأولى هكذا كان حاله، فقد ظن به أنه محتاج فعلاً، وأنه أهلٌ للرأفة والرحمة فتركه.
سادس عشر: اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على المغيبات؛ لأن أبا هريرة لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام لم يقص عليه القصة، بل النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قال له: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فما الذي أدرى النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان هناك أسير مع أن أبا هريرة لم يخبره؟ جاء أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام وبادأه بالقول: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يطلعه الله على شيء من الغيب.
سابع عشر: جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر لتفريقها بعد ذلك، وأنه يجزئ إخراجها قبل العيد، وكما قال العلماء: يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومٍ أو يومين، وكان يقوم العامل في عهد الصحابة الموكل من بيت المال من الخليفة بأخذ الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين، وإذا كان الشهر ثلاثين فثلاث ليال، ولو كان تسعة وعشرين فقبلها بيوم أو يومين، يوم وتسعة وعشرين.
ثامن عشر: أن زكاة الفطر تخرج طعاماً كما تقدم ذكره.
تاسع عشر: يقين الصحابة بكلام النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقهم به، عندما قال أبو هريرة : (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود) لمجرد أن الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعود أيقن أبو هريرة أنه سيعود.
عشرون: فضل قراءة آية الكرسي قبل النوم؛ لأن الشيطان قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم [البقرة:255] فإذاً متى تقرأ بناءً على تعليمات الشيطان الرجيم؟
إذا أويت إلى فراشك، ليس لأنها وصية الشيطان بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك، وإلا فالشيطان لا سمع له ولا طاعة، فلم يصبح تشريعاً بكلام الشيطان بل صار تشريعاً لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( صدقك )، وهذه الفائدة التالية.
حادي وعشرون: لما قال: ) صدقك )، هو التشريع وليس كلام الشيطان.
ثاني وعشرون: أن آية الكرسي تمنع شياطين الإنس والجن في ظاهر النص -سواء كان في الأمور الدينية- من أن يقترب من الإنسان؛ لأنه يقول: ولا يقربنك شيطان، وكلمة (شيطان) نكرة (ولا يقربنك) نفي، فلا يقربك شيطانٌ حتى تصبح.
ثالث وعشرون: كرامة الله تعالى لـأبي هريرة عندما استطاع أن يلقي القبض على الشيطان، وليس آحاد الناس يستطيعون القبض على الشيطان، لكن أبا هريرة استطاع أن يلقي القبض عليه، فما استطاع الشيطان أن يفر منه، فلذلك قال: (فرحمته فخليت سبيله) وإلا لو لم يخل سبيله لما استطاع الشيطان أن يهرب منه, إذاً أبو هريرة ألقى القبض على الشيطان ولم يستطع الشيطان أن يفلت منه، ولو لا أنه خلَّى سبيله لظل مُمسكاً به مُعتقلاً عند أبي هريرة ، ففيه أن المؤمن قوي الإيمان يستطيع أن يمسك شيطاناً وألا يمكنه من الهروب.
وذكر ابن القيم رحمه الله في فوائد الذكر: أنه من كثرة ذكر المؤمن لله عز وجل ربما اقترب منه الشيطان ليمسه بسوء فيصرع الشيطان فتتجمع عليه الشياطين فيقولون: ما به؟ فيقولون: صرعه الإنسي، ليس العكس، فالإنسي هو الذي صرعه، حاول أن يمسه بشيء فانقلب الشيطان مصعوقاً، فإذاً الأذكار هذه هي الحماية القوية للمؤمن.
رابع وعشرون: أن ذكر الله تعالى هو الذي يحمي المؤمن من الشيطان، وذكر الله على رأسه القرآن، وعلى رأس القرآن وأفضل آية فيه آية الكرسي، فقد قال: (لم يزل عليك من الله حافظ).
خامس وعشرون: أن الإنسان إذا كان صاحب حاجة فإنه يبين حاجته حتى يعرف عذره، ولا يُرتاب في أمره أو يشك فيه.
سادس وعشرون: رفع الشأن المهم إلى العلماء، فإن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
سابع وعشرون: حرص أبي هريرة على تعلم الخير والعلم، وذلك في المرة الثالثة.. لماذا أطلق الشيطان؟ لأن الراوي قال: (وكانوا أحرص شيءٍ على الخير) أي: الصحابة، أبو هريرة أطلق سراحه لمقابل الفائدة والعلم، وهذا يبين حرص أبي هريرة على العلم، فقد كان حرصه عليه بالغاً، ولذلك أطلق الشيطان مع أنه الآن قد ثبت عليه بالجرم المشهود للمرة الثالثة كذاب جاء يسرق، لكن لما صارت المسألة فيها علم وفائدة أطلقه من أجل ذلك، فهذا يبين كيف كانوا يحرصون على الفوائد وطلب العلم.
وكذلك في هذا الحديث يمكن أن يثار اعتراض وهو: كيف استطاع أبو هريرة أن يمسك الشيطان بالرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن إمساكه لدعوة سليمان عليه السلام في قوله: وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] قال الله: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ [ص:36] ثم قال: وَالشَّيَاطِينَ [ص:37] أي: سخرها، فكيف أمسك أبو هريرة بالشيطان الذي رآه وأراد حمله للنبي عليه الصلاة والسلام؟
أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذا الإشكال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ أن يوثق الشيطان الأكبر رأس الشياطين، فعند ذلك يكون فيه مضاهاة لما حصل لسليمان عليه السلام، وأما الشيطان الذي في حديث الباب، فإما أن يكون الشيطان الذي يكون مع كل إنسان، أو أن يكون ذلك شيطاناً من الشياطين وليس رأس الشياطين، فبناءً على ذلك لا يكون في ذلك مضاهاة لملك سليمان عليه السلام.