بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة الصالحين وبعد ....
( بقلمي )
*********حقوق الجــــــــــــــــار *********
عندما خلق الله عز وجل الإنسان قدر له أن يكون مخلوقا اجتماعيا ليس له القدرة على البقاء والعيش إلا في ظل مجتمع متكامل يتمتع فيه بأنس مجتمعه وجيرانه وأهله , ولان أكثر من تحتم علينا طريقة حباتنا التعامل معه بشكل يومي هو الجار فلهذا جعل الشرع للجار النصيب الأكبر من الاهتمام بتوثيق العلاقة معه وقد جاءت الوصايا الربانية والأحاديث الشريفة لتعزز من مكانة الجار والتوصية به حتى صار هناك شبه قانون تفرد به الإسلام دون سائر الديانات لتنظيم علاقات الجيران يبعضهم , وسواء كان الفرد المسلم يعيش في ظل مجتمع مسلم أو غير مسلم فهو مطالب بهذه الحقوق من الله عز وجل مهما كانت انتماءاتهم ودياناتهم .
قال الرسول عليه الصلاة والسلام :" مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه " ( الصحيحين ).
ولكن لم جعل الله عز وجل هذه المكانة السامية للجار؟
لنلق نظرة سريعة ,فكم من إنسان إصابته يوما مصيبة ولم يجد إلا احد جيرانه للوقوف معه ومد يد العون له .
كم من إنسان أصابته ضائقة مالية ووجد احد جيرانه يمد له يد العون دون من أو أذى .
كم من إنسان يذهب إلى عمله وهو مطمئن على ترك زوجته بالمنزل وحدها ناعمة بأنس جيرانها .
ولو استرسلنا في ذكر فضل جيراننا ووقوفهم معنا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا لما وجدنا متسعا بين طيات الكتب لتدوينها .
لنتأمل قول الله تبارك في علياءه :
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناًوَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىوَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْأَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) سورةالنساء 36 }
في هذه الآية الكريمة نرى الله عز وجل قرن عبادته وتوحيده مع الوصية بالجار تعظيما لحقه علينا , قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب": (أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاية برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا ترى سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين: "والجار ذي القربى" أي القريب، "والجار الجنب" أي الغريب.
وقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام من تمام الإيمان بالله واليوم الآخر حفظ حقوق الجار فقال عليه الصلاة والسلام : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره " .
فإكرام جيراننا من تمام الإيمان بالله عز وجل .
وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام :"خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره " . رواه احمدوالترمذي
ومن العجيب أن البعض لم يكتف بعدم إعطاء الجار حقه بل تعدى ذلك إلى الاعتداء على جيرانه وإقلاق راحتهم وهذا الصنف من الناس يدخل تحت وعيد الرسول في حديث آخر يقول فيه : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره " .
وكفى به زاجرا عن أذية الجار قوله عليه الصلاة والسلام :" والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن فقيل له : من هو يا رسول الله؟ . فقال : الذي لا يأمن جاره بوائقه " . أي شروره وأذاه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما تقولون في الزنى ؟ قالوا حرام حرمه الله ورسوله وهوحرام إلى يوم القيامة . فقال رسول الله (ص) (( مه لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسرعليه من أن يزني بحليلة جاره)) قال ما تقولون في السرقة قالوا حرمها الله ورسولهفهي حرام إلى يوم القيامة قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أنيسرق من جاره" . رواه أحمد
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وأن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه" قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: "غَشمُهُ وظلمه" (رواه أحمد)
وقال احد الصالحين :ليس الإحسان إلى الجار بكف الأذى عنه وإنما الإحسان إليه الصبر على أذاه وعدم معاملته بالمثل .
وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن امرأة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها فقال : " هي في النار " . فقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام أذى الجار من موجبات الدخول إلى جهنم والعياذ بالله , ويدخل تحت هذا الوعيد أذى الجار بالتجسس عليه واختلاس النظر إلى حرماته وتتبع عوراته وتصيد سقطاته وأخطاءه وغيبته وإشاعة عيوبه ومضايقته بالجلوس أمام بابه أو تحت نوافذه وترك الحبل على الغارب للأبناء بالصراخ والزعيق والإزعاج أو حتى رفع صوت المذياع والمسجل , وكل هذه الأشياء وان كانت عامة في التحريم إلا أنها في ذات الجار اشد واخص .
يقول الشاعر الجاهلي عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي********حتى يواري جارتي مأواها
وأما في الإسلام فيقول أحدهم:
ما ضـر جاري إذ أجاوره ألا يـكــون لبـيـته ســــتـر
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الخدر
وأورد هنا هذا الحديث الشامل عن حقوق الجار حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام :"أتدرون ما حقوق الجار؟ إن استعان بك أعنته وان استنصرك نصرته وان استقرضك أقرضته وان افتقر عدت عليه وان مرض عدته وان مات اتبعت جنازته وان أصابه خير هنأته وان أصابته مصيبة عزيته ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ولا تؤذه وإذا اشتريت فاكهة فأهد له فان لم تفعل فادخلها سرا ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده ولا تؤذه بقتار قدرك ( أي بدخان اللحم عند الطبخ) إلا أن تغرف له منها , ثم قال : أتدرون ما حق الجار؟ والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحم الله " . (رواه الطبراني ).
يا الله ما أعظمه من حديث قد حمل كل المعاني السامية في علاقة الجيرة التي تكفل التحابب بين الجيران , وارتقى بأخلاق الإنسان المسلم إلى أعلى قمم المجد فهذا الحديث الرائع يفرض نفسه فرضا على كل ذي فطرة سليمة من الناس وان كان غير مسلم .
قال الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي ذر رضي الله عنه : " يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك ". (رواه مسلم) .
وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت :" إن لي جارين فإلى أيهما اهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا ".(رواه البخاري )
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام " مَا آمَنَ بي مَن بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم " رواه (الطبراني ).
وقال مجاهد رحمه الله : كنت عند عبدا لله بن عمر وغلام له يسلخ شاة فقال :يا غلام إذا سلخت فابدا بجارنا اليهودي حتى قال ذلك مرارا , فقال له: كم تقول هذا ؟ فقال : إن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا انه سيورثه " .
قال أبو بكر البزار عن جابر بن عبدا لله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجيران ثلاثة جارله حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيرانحقا . فأما الجار الذي له حق واحد فجار غير مسلم لا رحم له . له الجوار . أما الجارالذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاث حقوق فجار مسلمذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم ".
قال عليه الصلاة والسلام: اصبر لجارك علَّ الله أن يهديه، فذهب وصبر قليلاً، لكنه ما اهتدى، فعاد يشكو إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: خذ متاعك وزوجتك وأولادك وانزل في سكة من سكك المدينة ، فأخذ زوجته وأثاثه على ظهره، ونزل وجلس في السكة، فأصبح الناس يسرحون عليه ويروحون ويغدون فيقولون: ما لك يا فلان؟ قال: آذاني جاري حتى أخرجني قالوا: لعنه الله، فيصبح من مرَّ عليه يقول: ما لك يا فلان؟ قال: آذاني جاري، قالوا: لعنه الله، ويمشي الماشي وقال: ما لك؟ قال: آذاني جاري قال: لعنه الله، فسمع بالخبر جاره، فأتى إليه وقال: أتوب إلى الله، والله لا أوذيك، عد إلى دارك
فيالها من حكمة حل بها الرسول عليه الصلاة والسلام هذه المشكلة بطريقة مبتكرة راقية رادعة دونما حاجة إلى خصومات وتهديد .
أسوق هنا حكاية أخرى حدثت مع أبي حنيفة النعمان رحمه الله فكان له جار ابتلي بشرب الخمر فكان حين يعود إلى داره ليلا يشرب ويشرب حتى يبلغ منه السكر حد الثمالة فيرفع عقيرته بالغناء متمثلا بقول الشاعر العرجي : أضاعوني وأي فتى أضاعوا ******** ليوم كريهة وسداد ثغر .
وكان ابوحنيفة يصبر على أذاه وإزعاجه ويتحين الفرصة لوعظه حتى أحس بغياب جاره أياما لم يعد يسمع فيها صوته فسأل عنه لعله مريض فقيل له أخذه العسس(أي الشرطة) وهو سكران وسجن فذهب ابوحنيفة إلى الأمير يستشفع فيه فأمر الأمير بإطلاق كل من اخذ تلك الليلة إكراما له فقال له ابوحنيفة حين اخرج : يا فتى ..أترانا أضعناك؟ فقال له بل حفظت ورعيت ثم تاب عن الشرب ولازم اباحنيفة وصار من الصالحين .
وباع رجل منزله رخيصا بسبب سوء معاملة جار له فلامه الناس فأنشد قائلا :
يلومونني أن قد بعت بالرخص منزلي ******** ولم يعرفوا جارا هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملام فإنمـــــــــــــــــا ******** بجيرانها تغلو الدار وترخص
وقال ابوهريرة رضي الله عنه : إن من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهني .
وقرأت حكاية حدثت في باريس عاصمة فرنسا فقد كانت تعيش في إحدى ضواحيها امرأة مغربية اسمها خديجة ذات يوم تخرج مسرعة لتلحق بعملها فسمعت أنينا من احد البيوت فتتبعت الصوت حتى وجدت عجوزا قد زلت قدمها وكسرت وقد مر بها عشرات الفرنسيين فيلقون نظرة خاطفة إليها ثم إلى ساعاتهم ويذهبون فيحال سبيلهم للحاق بأعمالهم فقامت خديجة بحملها إلى المستشفى ثم عادت بها إلى منزلها فشكرتها العجوز الفرنسية مستغربة سبب اهتمامها بها فأخبرتها خديجة عن الإسلام وحقوق الجار فما مر ذلك اليوم إلا وقد وقعت بذرة الإسلام في قلب العجوز ونطقت بالشهادتين .
وكان محمد بن الجهم جارًا لسعيد بن العاص عاش سنوات ينعم بجواره فلما عرض محمد بن الجهم داره للبيع بخمسين ألف درهم ، وحضر الشهود ليشهدوا ، قال : بكم تشترون مني جوار سعيد بن العاص ؟ قالوا : إن الجوار لا يباع ، وما جئنا إلا لنشتري الدار . فقال : وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك ، وإن سكتَّ عنه بادرك بالسؤال ، وإن أسأت إليه أحسن إليك ، وإن هجته عطف عليك ؟ فبلغ ذلك الكلام جاره سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم وقال له : أمسك عليك دارك .
وكان عبدا لله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أولاد جيرانه، وإذا كساهم كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي فقال: داري ثمنها ألفي درهم، الألف الأولى قيمة الدار وأما الألف الثانية فقيمة الجوار -جوار عبدالله بن المبارك - فسمع عبدالله بن المبارك ذلك وقال: والله لا تبيعها، هذه ألف درهم ثمن جوار عبدالله بن المبارك وابق جاراً لي، ثم قال عبدالله بن المبارك: اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح في اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.
واختم حديثي هذا بحكاية عن أبي دلف وكان من أجواد الناس وأحسنهم عشرة وقد كان له جار كثرت عليه الديون وضاقت به الحال إلى أن اضطر إلى عرض داره للبيع لسداد ديونه وساومه بعض الناس فطلب ثمنا له ألفين ومائتي دينار فقالوا له إن ثمن داره لا يفوت المائتين فكيف يطلب فيه أكثر ؟ فقال لهم نعم وان جوار أبي دلف بألفين فلما سمع به ابودلف جاءه وقال له امكث في جوارنا ولا تفارقنا وقضى عنه دينه ...
والآن بعد كلامي هذا هل ستنظر أخي المسلم وأختي المسلمة إلى جيرانك نظرة جديدة قد تشربت بتوجيهات وحكم الرسول وسلفنا الصالح ؟؟؟؟
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه