السلام عليكم
متابعة لترجمتي التي قدمتها سابقاً، أقدم إليكم ترجمة الفصل الثاني الذي يحمل عنوان (عبر الأسواق)، من كتاب طرابلس الجديدة وما شاهدته في الدواخل، لمؤلفته ايثيل براون (Ethel Braun)، الذي نُشر سنة 1914، ويحكي عن تفاصيل رحلتها إلى طرابلس الغرب سنة 1912م، ومن الجدير بالذكر أن الصورة المرفقة هنا منقولة من الفصل الثاني نفسه الذي قمت برجمته.
هذه الترجمة جهد خالص لي اعتماداً على نسخة الكتاب الأصلية الإنجليزية، وقد كتبت شرح بعض العبارات الواردة فيه بين علامة القوسين (...)، ويبقى أن أقول أن حق النقل مباح لكل من يود بشرط ذكر المصدر عند النقل.
مع تحيات المترجم/ م. عبدالباسط بلقاسم الغماري
الفصل الثاني - عبر الأسواق
جولة عبر الأسواق - سوق الترك - سوق الحرير - سوق الربع - صائغو الفضة - حرفيّو الجلود - غروب الشمس من قبة المسجد الكبير
أسواق طرابلس ليست كثيرة ولا مثيرة للاهتمام مثل أسواق تونس، لكن لها طابعها الخاص، ومنذ الاحتلال الإيطاليّ تغير هذا الطابع هنا وهناك، ومثلما ذكرت من قبل، تم إزالة جزء كبير من السوق والذي كان في السابق أنشط الأسواق كلها، سوق الثلاثاء الآن شارع عصريّ فيه فنادقٌ ومقاهٍ ومحلاتٌ تجارية، وفي وضعه الحالي لا يعدو تشويقه نصف ما كان عليه في الأيام السالفة بحشود البائعين النشطين من عرب وبربر ويونانيين ويهود وإيطاليين ومالطيين، حيث كان الأهالي يشترون مؤونتهم الأسبوعية كل يوم ثلاثاء، والآن هناك سوق يحل محله كل يوم جمعة في منطقة سوق الجمعة التي تبعد مسافة ساعة تقريباً بالسيارة من المدينة على طريق تاجوراء.
سوق الترك عبارة عن شارع طويل ومستقيم وضيق مغطى بنوع من التعريشات، والضوء يتسلل من خلال أوراق التعريشات بحيث يخفف حرارة الشمس بشكل لطيف، حيث تتشكل مجموعات بشرية مبهرجة نشطة جداً تتحرك جيئة وذهاباً بلا توقف.
كان السوق عامراً بالدكاكين التي يديروها الشرقيون، والآن التجار هم من الإيطاليين واليونانيين والأسبان، وهنا بوسعك إلى حدٍّ ما أن تبتاع كل ما ترغب به، وكلّ شيء عصريّ إلى حدٍّ ما، في منتصف الطريق يوجد المسرح الإيطالي الجديد الذي يتسع لقرابة ألف شخص ويتم إيلاؤه عناية كبيرة، وقد كان في السابق مقهىً تركياً موسيقياً، فيه راقصون وعازفون عرب، وهكذا بمرور الوقت تم تطويره.
لكن يوجد كذلك في سوق الترك مسجدٌ جميلٌ يبدو وقد حافظ على طابعه الشرقيّ وسط كل هذه الحداثة أمام بابه، وهو باب متقن الصنع للغاية بنقوشه الكثيرة والزخارف أو الخشب الملون وبدعامات رخامية، ويفتح على فناء ذي أٌقواس وسط الحشود التي تتحرك بنشاط.
عن يسار السوق مررنا عبر عدة شوارع صغيرة تؤدي إلى خارج الأسوار.
ثم نأتي إلى سوق الحرير، وهو شارع نسّاجي الحرير الذين يحتلّونه بأكمله، ومن المشوق زيارته من باب إلى باب، وأول من استقبلنا رجلٌ عجوزٌ دعانا بوجه بشوش للدخول، وكان هو ورجل أصغر سناً، مشغولين بالعمل على نسيج من الروعة والدقة والجمال، وكان الأساس من قماش فضيّ، حيث سيقومان بحياكته مع حرير ذهبيّ اللون، وعند الانتهاء منه سيكون ثوباً داخلياً رائعاً لربة بيت عربية ثرية، وثمنه ما بين 10 و12 ليرة.
في المتجر التالي، الحائك بمعطفه القرمزيّ الفاتن وطربوشه الأحمر، وآخر من الذهب الخالص الذي يبهر الأعين بالفعل، وأشعة الشمس تلمع تماماً فوقه، هنا يمكنك شراء حريرٍ خالصٍ يُباع بالوزن بدل الطول ولا يبلى.
في نهاية سوق الترك يوجد ما كان يُعرف عند الأتراك باسم سوق الجمل، وقد أعاد الإيطاليون تسميته بسوق الربع، في الحقيقة هذا سوق قديمٌ جداً مغطّى، وفعلياً هو الوحيد المماثل لأسواق تونس.
على كل جانب توجد الأكشاك الصغيرة نفسها، حيث التجار (كلهم عرب هنا) يجلسون أو يستلقون ويدخّنون ويحتسون القهوة ويتجاذبون أطراف الحديث، ومن المفترض أنهم يبيعون شيئاً أحياناً، برغم أنه على ما يبدو أنّ هذا آخر ما يثير اهتمامهم، وبالتأكيد سيكون من دواعي السرور في طرابلس أن تتمكّن من التجوّل هنا وهناك دون مضايقتك لتشتري مثل أيّ مكان آخر في الشرق. يوجد هنا سجّاد وفرش وستائر وأغطية الأسِرّة وحصائر وأشياء من كل الأصناف، والسقف المقوّس عالٍ جداً وبه فتحات صغيرة بالأعلى، تلقي الشمس عبرها بقعاً من الضوء في أماكن غير مُتوقّعة، كل شيء هادئ ووقور، الأكثر انتعاشاً وتميّزاً.
بعد خروجنا من سوق الترك يساراً بنهاية سوق المشير انعطفنا يميناً، نفحة من رائحة نفّاذة ترحّب بنا، ريحٌ ناعمةٌ ودافئةٌ تهبّ مباشرةً من سوق العطّارة، حيث توجد كل أنواع العطور الشرقيّة والأدوية، على مسافة أبعد قليل يوجد سوق الصياغة، شارع صائغي الفضّة وجميعهم يهودٌ، حرفيّون مهرة، يعملون بأدقّ الفنون وأكثرها تعقيداً في الذهب والفضة، وهنا توجد الزخارف الرائعة والغريبة التي تروق بقوّة للذوق الشرقيّ.
أساور ثقيلة، وأقراط وخواتم فضية وذهبية وسطها منحوت ومربّع، وتمائم فضيّة على شكل أهلّةٍ ونجومٍ، بها ثقب صغير لتعليقها في صدر ثياب النساء، وتوقفنا وخضنا جدالاً مثيرا للاهتمام مع أحد التجّار حول قيمة اثنتين من هذه الحُليّ، فكرته وفكرتي حول الموضوع تطلبتا بعض الوقت لتتفقا، ولكن في النهاية تمّت الصفقة، وغني عن القول أنها تمت بنصف السعر الذي طلبه أولاً، مجموعة من العرب المتحمسون مثلنا انضموا إلى العملية وقد أخذوا جانب المتفرّجين وأنهيت الأمر بتصوير الكثير.
بعد ذلك تجولنا في سوق الحلقة حيث يبيعون الصوف في كل مراحل وجوده.
تأتي النساء العربيّات إلى هنا في الصباح الباكر لشراء الصوف الذي يصنعن منه الباركان (الفرّاشية)، إنه سوقٌ فاتن بتعريشته في منتصف الطريق بنهاية الشارع المغطاة بنباتات خضراء متسلّقة، وهنا وهناك يرى المرء فناءً مكشوفاً مليئاً بلفّات من الصوف المعلّقة لتجفيفها، وعلى اليمين مررنا بمُرابط وجدرانه البيضاء الناصعة تسطع في الشمس المتّقدة.
على مسافةٍ أبعد قليلاً نحو اليسار، يقودنا الطريق إلى سوق الخبزة، ونعبره مباشرةً إلى شارع ريكاردو حيث توجد دكاكين حرفيّو الصناعات الجلديّة، ويوجد صفٌّ قصير منها على طول الممرّ المقنطر ذي الأعمدة، الأحذية الصفراء الزاهية مثل التي في تونس غائبة بوضوح، لقد رأيت فقط بضعة أحذية والأحذية ذات اللون الأغمق والمطرزة بألوان مختلفة، وكانت هناك أزواج من الأحذية النسائية الصغيرة الجميلة، قرمزية وأرجوانية وزرقاء مطرّزة بالفضة، وكذلك بضع حقائب سوداء وقرمزية، ولكن معظم المتاجر مخصصة للسروج العربية من كل شكل فاقع ليضعوها على خيولهم، والأحمر هو اللون السائد مما يجعل منظر دكاكينهم من الداخل مبهجة للغاية، وقد عرضوا علينا سرجاً أسود جميلاً مطرّزاً بالفضة، وكله مصنوعٌ يدويّاً بالطبع، وحذاءً جلديّاً قرمزياً مرتفعاً مخصصاً للنساء ويشبه نوعاً ما حذاء الفرسان، وكان مصنوعاً من جلدٍ مرنٍ ومطرّزاً بشكل رائع أخذ بلبّي.
عدنا مرة أخرى إلى السوق الكبير ببداية شارع ميزران، ووجدنا مقرّ المدفعية يمين المستشفى المدنيّ، ثم انعطفنا يميناً نحو زنقة سوق الحطب، ووصلنا إلى مساحة مفتوحة من الأخشاب والأعشاب، وهنا رأينا أعلاف الإبل والحمير والبغال وغيرها من حيوانات المدينة محمولةً على ظهور الحيوانات التي ذكرتُها، وصادف أننا وصلنا في وقت الازدحام حينما وصلَت للتوّ ويجري تفريغها، والأمطار الغزيرة التي هطلت منذ يومٍ أو يومين خلّفت بركةً كبيرةً في وسط السوق، وكانت تعكس تأثيراً رائعاً من الخطوط الطويلة للجدران الوردية وأشجار النخيل الوارفة والصورة الظلّية المتحركة للعرب المرتدين البياض والإبل المحمّلة.
مع تأخّر الوقت عدنا إلى المدينة، إلى مدخل مسجد القره مانلي الكبير، وعرب يبيعون القبّعات البيضاء يجلسون تحت الرواق، وكان هناك صديق ينتظرنا ومعه تصريح من القاضي، يسمح لنا بالحصول على منظر نرغب فيه لطرابلس من الشرفة المحيطة بالمئذنة، وقد غابت الشمس عند خروجنا بعدما تسلّقنا السلّم المتعرّج، وغربت بوهج متألّق مضفيةً لمسةً سحريّةً على المدينة المتّشحة بالبياض بالأسفل.
هناك، بين اللون الياقوتيّ الغامق للبحر الأبيض المتوسط من جانب، وغروب الشمس القرمزيّ والذهبيّ من جانب آخر، تقع طرابلس، مآذن بيضاء ومرابطون وأبراج، والأسطح تلامس الحياة الدافئة للضوء المغادر.
بينما كنا مندهشين وعاجزين عن الكلام، واقفين نحتسي شراباً في هذه البانوراما الرائعة، أتتنا صرخة طويلة متهدّجة من الشرفة القريبة من جانبنا، إنه المؤذّن ينادي لصلاة العشاء، وهو شيء مألوف لكل من يعرف الشرق، ولكن، ما أروع هذا التأثير، هنا في النقطة الأقرب منه وهو ينادي عبر الفضاء، ويأتي نداءٌ من مسجد مجاور، ومرة أخرى أبعد قليلاً هذه المرة، الله... الله، محمد رسول الله.
وبنظرة أخيرة ننزل من الدرج المتعرّج عائدين من مدينة الأحلام إلى الحياة المزدحمة بالأسفل.